نشرت أيضًا في مدونة أسامة خالد.
استضافت عمّان الأسبوع الماضي أربعة أيام مبهجة مفعمة لملتقى المدونين العرب 2014، حيث اجتمع مدونون من شتى أرجاء الوطن العربي ليتعارفوا ويتبادلوا الخبرات ويحكوا التجارب ويستعرضوا المشاريع. كان الملتقى قد عقد لأول مرة في 2008 ببيروت، ومرة ثانية ببيروت أيضًا في 2009 ثم الملتقى الثالث في 2011 في تونس، وها هو يعقد مجددًا في عمّان. تلقيت الدعوة من الأصوات العالمية، التي أدوّن فيها، وكانت فرصة مميّزة.
افتقدت هذه الدورة من الملتقى وجوها مميزة: علاء عبد الفتاح وباسل صفدي الذيْن حال دون حضورهما السجن، وآخرون من العراق وسوريا منعوا بسبب التأشيرة. أحد المدونين السوريين احتجز في مطار الملكة علياء في عمّان لسبع ساعات قبل أن يجبر على العودة من حيث أتى! صدقت عبير حين وصفت ما جرى بالعار.
ينقسم الملتقى لقسمين: الأيام الثلاثة الأولى مغلقة ومركزة وتعقد فيها ورش وجلسات نقاش، واليوم الرابع والأخير مفتوح للجميع وتحضره الصحافة وتعقد فيه ندوات ومناظرات. تولت حِبر (وهي مجموعة إعلامية شبابية أردنية) تنظيم الملتقى بإبداع ومرح: محمد القاق ولينا عجيلات وريم المصري ورمزي جورج وآخرون. تنسيق محمد وشطحاته الصباحية تستحق الكثير الكثير من الإطراء والثناء. كنّا نبدأ كل صباح بتمارين بديعة. :D
بدأ اليوم الأول بحلقة كانت مدخلًا للتعارف: سأل محمد القاق أسئلة وطلب من الحضور أن يتحركوا لوسط الحلقة ليعرف الحضور المشتَرك بينهم: من منكم يُدوّن من سنة واحدة على الأقل؟ سنتين؟ ثلاثة؟ من حضر الملتقيات السابقة؟ من منكم والد لطفل واحد؟ طفلين؟ ثلاثة؟ وهكذا. بعدها تقدم خمسة مُيسّرين تحدثوا عن خمسة مسارات ستعقد صباح الأيام الثلاثة كلها: مسار الأمان الرقمي، ومسار التوعية والدفاع الإعلامي، ومسار تصوير البيانات، ومسار حوكمة الإنترنت، ومسار كتابة الأخبار.
انضممت لمسار تصوير البيانات وتمثيلها الذي قدمه كل من: رمزي جابر (من مشروع تصوير فلسطين) ومايا وغابي (من مؤسسة تاكتكال تك). في الصباح الأول تحدث رمزي عن تجربته العملية في التعريف بالقضية الفلسطينية (بعضها هنا)، واستعرض بعض الأفكار وتحدث خلالها عن أسس إيصال الرسالة واستبناط المعلومات وتحدث عن مقاييس يستخدمهما المشروع لقياس مدى الأثر: المقياس الكمي (بقياس الزيارات والتشارك) والمقياس الكيفي (بقياس نوع التأثير ومداه الذي سببه العمل). تحدثت مايا عن التصورات المختلفة لمختلف الثقافات عن تصوير البيانات وتمثيلها.
بعد استراحة الغداء انقسمنا لخمسة مجموعات وصاغت كل مجموعة قائمة بالمتطلبات التي يأمل أعضاؤها أن يتعلموها خلال الملتقى. من المتطلبات التي صاغتها المجموعة التي كنت فيها مثلا: تقنيات التدقيق الإملائي، والتعرف على حال الإنترنت في لبنان والسعودية، وتحديد الأولويات الإخبارية بكفاءة، وتحليل الشبكات الاجتماعية. بعد ذلك اجتمعت المجموعات المختلفة وقُرِئت المتطلبات وطُلب من كل من لديه القدرة على تلبية إحدى هذه المتطلبات أن يتطوع لإقامة جلسة في فترة ما بعد الظهر في الأيام الثلاثة، وهذا ما تم فعلا.
أعلنت جلسات ما بعد الظهر فحضرت جلسة عقدها ثلاثة أكاديميين يعملون على دراسة الشبكات الاجتماعية. تحدثت جودي دين عن مفهوم “الرأسمالية التواصلية”، وهو مفهوم صاغته في دراستها للقيم التي تنتشر في الشبكات الاجتماعية. ترى جودي أن تلك القيم امتداد للاقتصاد الذي تأسست عليه هذه الشبكات: الاقتصاد الرأسمالي، وأنها تعزز النظرة الفردانية التي يسعى فيها المُدوّن للترويج لذاته وللحرص على الحفاظ على الزيارات، والمتابعين، وأن ذلك كله يصاحبه تركيز على الكم لا الكيف واعتبرت في هذا السياق مصطلح “المدون العربي” نموذجا على التركيز الرأسمالي على الكم رغم الاختلافات الجذرية بين المدونين العرب وصعوبة خلق نموذج يجمع ما يمكن أن يسمى “مدونًا عربيًا”، ثم تساءلت أخيرًا عن دور ذلك كله على الحراك الراديكالي. أظن أن سؤال جودي يستحق التأمل فعلًا: ما القيم التي تعززها بنية الشبكات الاجتماعية، وكيف تؤثر على الحراك؟
لكني أتحفظ على جعل تلك القيم امتدادا للاقتصاد الرأسمالي، فثمة عوامل مختلفة اجتماعية وتقنية تساهم وبقوة في خلق القيم في تلك الشبكات. ستجد مثلا تباينًا في تعاطي مختلف البلدان مع الشبكات الاجتماعية، وتباينا بين مجتمعات المنصات المختلفة. لفت أحد الحضور الانتباه إلى أن عددًا من النقاط التي طرحت مثلًا تعتبر تصرفات بشرية فطرية لا ينبغي أن تربط بنماذج شبكية محددة. تحدث أكاديميون آخرون عن مجتمع التدوين، وكيف يجري التواصل بين المدونين فرفض جون مثلا أن يعتبر التدوين “محادثة” واعتبره تصرفا فرديا للتعبير عن الذات يصاحبه -بشكل غير مباشر- خلق ثقافة عامة يجري من خلالها التواصل وتعميم الأفكار والمفاهيم.
في اليوم الثاني وصل للملتقى مشاركون فاتهم اليوم الأول. سعدت جدا بلقاء رنوة يحيى من أضِف (وهي مؤسسة مصرية أعزّها كثيرا!)، ووصل شباب من المغرب منهم زينب، وحنان. واستؤنفت الجلسات الصباحية وخضنا في جلسة تصوير البيانات تدريبا عمليا حاولنا فيه جمع معلومات شخصية واستبناط العلاقات بينها، ثم تصويرها بيانيا. بعد هذا النشاط تحدثت غابي وطارق عمرو عن بعض أدوات تنظيف البيانات المبعثرة واستخراج المهم منها (منها: OpenRefine و Mr. People)
في فترة ما بعد الظهر حضرت جلسة لنشرة المواطن الرقمي، وهي نشرة شهرية توثّق حال الحريات الرقمية في الوطن العربي (آخر نسخة هنا، وهنا الاشتراك). كانت الجلسة استعراضًا لهدف النشرة ونقاشا لأدائها تَبع ذلك أن توزّعنا على مجموعات تناقش كل مجموعة جانبًا من جوانب النشرة: زيادة قرائها، واستقطاب كتاب لها، وتحسين عملية صياغتها وتجهيزها.
في اليوم الثالث استؤنفت الجلسات الصباحية وحضرت بعد الظهر جلسة قدمها مجموعة من السوريين. تحدثت ليلى عن مشروع “سوريا ما انحكت” لتوثيق الحراك المدني السوري من جهات إعلامية وفرق إغاثية وبناء المجتمع. تحدثت مارسيل -التي قدمت من حلب للملتقى!- عن قصتها الشخصية وعن انخراطها في الحراك، وعن اغتيال النظام لوالدتها، ثم تحدثت عن حال حلب وسيطرة داعش وطردها وانتقدت بشدة المنظمات الدولية التي لا تفهم ما يحتاجه الشباب في سوريا ومثلت على ذلك بدورات “السلم الأهلي” التي تقيمها تلك المنظمات، واستقطابها للشباب خارج سوريا ورفضها لأن تدعم الشباب النشط الذين يعملون في الداخل (تحرزا من أن يصابوا بالضرر فيلاموا). تحدثت عن غياب الغالبية العظمى من السوريين عما يجري على الإنترنت بسب قطع الإنترنت والتكلفة العالية لإنترنت الأقمار الاصطناعية التي تبلغ قيمتها لستة أشهر 1500 دولار. حكت عن قصص صغيرة من التكافل، والتضحية، والتعايش.
افتتح اليوم الرابع بكلمة لهشام المرآة. بدأها بغزل ببغداد العلم والمعرفة والنهضة والنور، وأننا من هنا نسعى لأن نخلق بغدادًا جديدة تحي تلك النهضة عبر الإنترنت. تحدث عن المدونين الذين منعهم السجّان من الحضور، وتحديدا علاء عبد الفتاح في سجن القاهرة وباسل صفدي في سجن دمشق. عقب ذلك ندوة عن دور المدونين في المرحلة الانتقالية، ثم مناظرة عن العبارة التالية: “الحجب لم يعد مهما، ما يهم الآن هي المراقبة”. دافع عمرو ومورغان عن هذه العبارة، وعارضها وليد وإيلري. تحدث عمرو عن المشاكل الجوهرية في بنية الإنترنت والعلاقة الحتمية بين المراقبة والحجب، وتحدث مورغان عن تجربة الفيلسوف البريطاني جريمي بنثام: أن احتمالية المراقبة بحد ذاتها (ولو لم تكن المراقبة مؤكدة) ستلزم الشخص بأن يُقيّد نفسه. في المقابل تحدثت إيلري عن أن الحجب بحد ذاته لا يزال معضلة وذكر محمد الجوهري أن حوالي 3% من الصينيين فقط لديهم أدوات للتغلب على الحجب. بعد ذلك عقدت ندوة “فنانو الثورة و الثقافة المضادة”. تحدث رضا زين عن أهمية الفن الحر (أو شبه الحر) في خلق شبكة فنية ومجتمع فني، وعن ضرورة خلق وسائل لا رأسمالية للتمويل، ورفض أن يعتبر الراب أو الجاز نماذج غربية بل اعتبر تأسيسها خروجا عن السائد في السياق الغربي ذاته. علّقت مارسيل أن الراب والجاز ليست أغانٍ يفهمها معظم الناس، ومثّلت على عودة الحداءات السورية الأصيلة في هتافات المظاهرات.
تخلل هذه الأيام الأربعة جلسات ثرية جدا مع شباب رائعين تعلو على كل ما ذكرت أعلاه في البرنامج الرسمي وتعلمت منها الكثير. أعرف أني لن أستطيع التوقف إذا بدأت بشكرهم فردا فردا، ولذا فلن أبدأ. :D كنت قدِمتُ للملتقى بتساؤلات لمحاولة فهم استخدام الشبكات الاجتماعية وتحليلها، وناقشت أفكار كثيرة ثرية في هذا السياق، والتقيت أخيرًا بمن هم وراء مؤسسة الجبهة الإلكترونية، وهي مؤسسة معنية بالدفاع عن الحريات في العالم الرقمي ودراسة طرق التجسس والحجب وتطوير أدوات لمكافحتها. كنت قد شاركت في مشاريع المؤسسة التطوعية لسنين.
الغاية من هذه الملتقيات مهمة: ثمة مجال للتعلم والتأمل في تجارب مختلف الأقطار العربية، وثمة فرصة لدعم جهود يندر الحديث عنها وتغطيتها، وثمة متسع للسعي والمواصلة على شتى الجبهات عسى أن يخلق هذا بريق أمل. تقول رنوة: “أملي هو الأمل”.